كتب علاء عبد الفتاح من سجنه :
تصر
الدولة على أن السجون خالية من المعتقلين السياسيين، لكن الكل يعلم أن السجون
مكدسة بمعارضين محبوسين «مؤقتا»، على خلفية تحقيقات فى قضايا كلها مرتبطة بصراع
سياسى.
الكل
يعلم أن أغلبية المحتجزين سيطلق سراحهم بعد مرور شهور دون إحالة للمحاكمة، والكل
يعلم أن أغلبية من سيحال للمحاكمة سيحصل على براءة، والكل يعلم أن أغلبية من
سيُدان فى مراحل التقاضى الأولى ستلغى الأحكام فى مراحل لاحقة، والكل يعلم أن
أغلبية من سيُدان فى أحكام نهائية لن يُدان بجرائم خطيرة ضد أرواح وسلامة وأمان
الناس، وإنما ستأتى الإدانات معتمدة على مواد قانون العقوبات الفضفاضة سيئة السمعة
التى طالما اعتادت الدولة المصرية استخدامها لقمع المعارضين، أو لقانون التظاهر
الجديد المعجز، الذى يحوّل مخالفة إدارية أثناء ممارسة حق دستورى إلى جريمة جنائية
يعاقب مرتكبها بالحبس.
وطبعا
الكل يعلم أن أغلب تلك القوانين غير دستورية، وسنحتفل قريباً - بالمناسبة - بمرور
مائة عام على إصدار قانون التجمهر لسنة 1914، أصدره الإنجليز لقمع الحركة الوطنية
بعد قرار الحماية، واحتفظت به كل البرلمانات المتعاقبة، رغم مخالفته لكل الدساتير
المتعاقبة، واستغلته كل الحكومات المتعاقبة.. ولايزال مستمراً!!
والكل
يعلم أن الأغلبية العظمى الساحقة من المحتجزين حرموا من حقوق أساسية، وتعرضوا
لانتهاكات ومخالفات أثناء القبض عليهم وأثناء التحقيق معهم وخلال احتجازهم. الكل
يعلم أنه، وفقا للدستور والقانون، الحبس الاحتياطى إجراء احترازى استثنائى لحماية
التحقيقات، له شروط محددة، وهى الخشية من هرب المتهم، الخشية من التلاعب فى الأدلة
أو تهديد الشهود، أو فى حالة الجرائم الكبرى وعتاة المجرمين لتوقى الإخلال الجسيم
بالأمن.
الكل
يعلم أن الشروط لا تنطبق على الأغلبية العظمى من المحتجزين حالياً، والكل يعلم أن
الشروط تنطبق على من يتهم من أفراد الشرطة بالتعذيب أو الفساد أو القتل، ومع ذلك
يمكن عَدّ مَن حُبس احتياطيا منهم فى السنوات الثلاث الأخيرة على أصابع اليد
الواحدة!! بل فى إحدى الحالات التى صدر فيها أمر بحبس شرطيين احتياطياً على خلفية
اعتدائهما على قاضٍ، رفض زملاؤهما تنفيذ الأمر، بل تظاهر أفراد الشرطة - دون إخطار
- بالأسلحة أمام منشآت الدولة، مطالبين بمنع حبسهما احتياطياً نهائياً. والكل يعلم
أن أغلبية العاملين بجهاز الشرطة والنيابة والمحاكم متواطئون فى احتجاز آلاف لن
تدينهم المحاكم، وفى إهدار حقوقهم بتوجيهات من قيادات أمنية أو عسكرية أو سياسية
لأغراض سياسية بحتة، لا علاقة لها بعدالة ولا قوانين ولا دساتير.. أى اعتقال سياسى
مفتوح بأمر من السلطة التنفيذية!!
ورغم
أن الكل يعلم بكل ما سبق، فإن الدولة مستمرة فى ادعاء أن مصر ليس بها معتقلون أو
تعذيب ولا ملاحقة معارضين ولا صحفيين ولا استهداف عشوائى ولا قمع!!
ويرد
على كل جهود الضغط والوساطة للإفراج عن المعتقلين، بما فى ذلك أقسى الحالات
الإنسانية، بأساطير عن استقلال القضاء واستحالة التدخل فى اختصاصاته، فى الوقت
ذاته الذى يخبرنا فيه ضباط المباحث بقرارات النيابة قبل المثول أمامها أصلاً!!
ولا
أفهم لماذا تحتاج السلطة لكل تلك المسرحية مع أن الكل يعلم، ومن الواضح أن
الأغلبية لا تمانع، ولا أفهم لماذا تستمر شخصيات عامة وقيادات حزبية وإعلاميون
وصحفيون وكتاب ومرشحو رئاسة وغيرهم فى التعاطى مع المسرحية رغم كل هذا!!
وصل
الحال بنا إلى أن تنشر الصحف يومياً نداءات للنائب العام بالإسراع فى التحقيقات
حتى يفرج عمن تثبت براءته.. أى أن استمرار المسرحية استدعى التخلى عن مبدأ «المتهم
برىء حتى تثبت إدانته».
هذا
عن السلطة والنخبة.. يعلمون لكنهم يتظاهرون، وقطاع من الجمهور يعلم ويتجاهل، أو
يتجاهل حتى لا يعلم، لدرجة أن تقوم أُم بالإبلاغ عن ابنها لانتمائه لـ6 إبريل أو
لمشاركته فى مظاهرة، على أساس أن «التعذيب» صار من أدوات التربية الحديثة.. لكن
ماذا عنّا؟!
أو
دعونى أقل: ماذا عنكم؟! أنتم يا من ترفضون مظلمة الاعتقال ولكنكم أحرار خارج
السجون؟! ماذا أنتم فاعلون؟! هل تشاركون فى المسرحية أم تنسحبون منها فى صمت
بانتظار أن يتم اعتقالكم من بيوتكم؟ هل ستتخلون عنا؟! أستكتفون بالانتظار على أساس
أن الوضع أكيد مؤقت، أم على أساس أن مسرحيات أخرى كالانتخابات قد تؤدى لانفراجة؟!
لنا
مسرحياتنا الموازية مثل خطاب «السجن الصغير والسجن الكبير» الذى هو الوطن.. آسف:
كفاكم تمثيلاً، لا سجن إلا السجن الصغير، فأنا فى محبسى لا أملك من أمرى شيئاً،
ولكن أنت حر تملك أن تنزل لتتحدى السلطة، قد تكون فرصة اختيار مكان وزمان اعتقالك
أو إصابتك أو استشهادك هى الحرية الوحيدة التى تمتلكها، لكنها حرية لم تعد لدى من
اعتقل بالفعل!!
تصلنا
رسائل تضامن عديدة تسهب فى الإطراء وتمنحنا من المديح ما لا نستحق، تقولون لنا
«أنتم ملهمون ومصدر أمل» و«طول ما فى ناس زيكم مصر بخير». فى السجون نقاوم اليأس،
بث الأمل دوركم أنتم، أنتم ألهمونا رجاء.. مصر بخير لو أصبح القمع يزيد طوابير
المقبلين على الاعتقال والتعذيب والاستشهاد ازدحاماً!!
ربما
لهذا تصر السلطة على مسرحياتها، رغم إدراك الجميع زيفها، تساهم المسرحية فى تطبيع
الوضع وقبوله، فى تشتيت الجهود فى مسارات ثانوية قانونية وتفاوضية وإصلاحية
وإعلامية غير مجدية. إلى أن يصبح الأصل فى الأمور الإدانة، يحمل الثوار مسؤولية
تفادى القتل والاعتقال، بل يدينكم رفاق الأمس على تحدى المسرحية ويحمّلونكم ذنب
الضحايا!!
نحن
هُزمنا يوم حمّلنا أنفسنا مسؤولية نتائج القمع، الكل يعلم أن القمع لا يمكن
تفاديه، الكل يعلم أن القمع قرار أهل السلطة، وفى ماضٍ غير بعيد كان الكل يعلم أن
ما يكسر القمع هو كسر الخوف منه واليأس من وقفه. وكان الكل يعلم أن ما يكسر الخوف
هو التحريض على تحديه والاستهزاء به، لا الانشغال بضمانات تأمين والبحث عن ظروف
احتجاج مواتية وملائمة، كان الكل يعلم أن ما يكسر اليأس هو التحريض المستمر على
الفعل الثورى الصدامى المباشر بلا حسابات مكسب وخسارة ولا انشغال بالشعبية
الملائمة.
الكل
يعلم أن النظام القائم لا يقدم شيئا لأغلبية شباب الوطن، والكل يعلم أن أغلبية
المعتقلين من الشباب، وأن القمع يستهدف الجيل كله لإخضاعه لنظام يدرك انفصاله عنهم
ولا يرغب.. ولا يقدر أصلا على استيعابهم.
الكل
يعلم أنه لا أمل لنا نحن السابقين فى المعتقلات.. إلا بكم أنتم اللاحقين.. فماذا
أنتم فاعلون؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق